كوفيد-19: فرصة للاصطفاف أم للتضامن العالمي؟

إن القلق الناجم عن انتشار الوَباء، الذي سببه فيروس السارس SARS-COV-2، قد وحّد العالم ، إلّا أنه كشف أيضاً عن تفاوت واضح بين الدول الغنية والدول الفقيرة، وعمق اللامساواة في النظام العالمي وهياكل القوى العالمية. إن حدة الأزمة لا تستوجب اتخاذ خطوات فورية لمساعدة البلدان النامية في التخفيف من التداعيات الاقتصادية  فقط، ولكن يجب أن تفتح مجالًا للتفكير في الأسئلة الجذرية حول النموذج الاقتصادي العالمي وحدود “الديمقراطية الليبرالية”، وربما في معارضة الأشكال السائدة للتبادل الدولي المقيّمة برأس المال.[1]

تنشغل معظم المجتمعات في العالم، اليوم، بأمرين رئيسيين: الأول هو كيفية التخفيف من الأثر الصحي للفيروس والحد من عدد الوفيات وتخفيف الضغط على البنية التحتية للقطاع الصحي، والثاني هو كيفية التخفيف من الكارثة الاقتصادية التي نجمت عن التدابير الاحترازية المتخذة للتعامل مع الأمر الأول. وعلى الرغم من الإجماع الدولي على أهمية الإجراءات الاحترازية، إلّا أن الجانب الاقتصادي هو مصدر قلق أكثر إلحاحاً لدى معظم المجتمعات في البلدان النامية.

لقد كشف الوباء عن عبثية الأولويات الوطنية، وهشاشة النظام الاقتصادي السائد عالمياَ؛ فعلى سبيل المثال، يبلغ الإنفاق العسكري للولايات المتحدة الأمريكية أكثر من 600 مليار دولار سنوياً[2]، وتنفق على مئات القواعد العسكرية في أكثر من 80 دولة حول العالم [3]، ومع ذلك كانت الحكومة الفيدرالية الأمريكية وعدد من الولايات تكافح، في أواخر آذار/ مارس ،2020 للتغلب على نقص الكمامات الطبية وأجهزة التنفس الصناعي الضرورية جداً لمكافحة الوباء[4]. لا تستطيع الدول الغنية – مثل الولايات المتحدة- الهروب من مواجهة الأزمة الاقتصادية أو الصحية، ولكن يمكنها إنفاق الأموال لمعالجة بعض مشكلاتها على الأقل، كما يتضح من حزمة التحفيز الأخيرة، التي تبلغ قيمتها 2 تريليون دولار في الولايات المتحدة، وفواتير الإنفاق الكبيرة في ألمانيا والمملكة المتحدة ودول أخرى[5].

في معظم البلدان النامية، هناك هامش أقل بكثير للإنفاق، على الرغم من ضرورة التخفيف من ويلات الوباء والأزمة الاقتصادية على قضايا، مثل الأمن الغذائي وتمويل الديون والرفاه العام والتنمية البشرية. يمكن أن يساعد التعاون الدولي في توسيع الاستثمار في مجال البحث والتدخلات، لمواجهة الآثار السلبية على الصعيدين: الاجتماعي والاقتصادي. إذ يمكن للقاح مجاني ومتوافر دولياً أن ينقذ ملايين الأرواح في البلدان الفقيرة، حتى لو كانت نظمها الصحية غير كفؤة. فليست هناك ضرورة ولا وقت لحل جميع مشكلات الدول النامية (أو الغنية) لتلبية الاحتياجات العاجلة. على أية حال، هناك أسئلة أوسع نطاقاً وراء هذه المخاوف، من قبيل: ما الدروس المستفادة من هذا الوباء؟ ما نوع الاقتصاد السياسي الذي سيظهر في الأشهر والسنوات القادمة، وكيف ستصاغ سردية الِاسْتِجابَة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية؟

دول “جنوب العالم” ومنطقة الشرق الأوسط العربية

باستثناء الصين وإيران، كان انتشار الفيروس في البداية أكثر تأثيراً على البلدان الغنية، ولا سيما أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية. افترضت دراسات غير محكمة علمياً أن المسارات المتباينة في انْتِشار الفيروس تعود إلى اختلافات بين الدول في تبني أنظمة اللقاحات، مثل اللقاح المضاد لعصية كالميت غيران، (Bacillus Calmette-Guerin)، التي تسبب شلل الأطفال، كتفسير لوجود خسائر أكبر في البلدان الغنية مقارنة بالفقيرة [6]. ومع ذلك، لا توجد حتى الآن بيانات كافية لشرح الاختلافات في معدلات الإصابة والوفيات.

 من الواضح أن الأزمة الناجمة عن الفيروس ستختبر البنى التحتية للصحة العامة في البلدان النامية، وأن عقوداً من سياسات التقشف والنيو ليبرالية تعني أن العديد من البلدان غير مجهزة بشكل جيد. مثلا  في الإكوادور، ثاني أكبر دولة متضررة، في أمريكا اللاتينية، “أدت حزمة التقشف ذات التوقيت غير المناسب – التي دفع بها الرئيس مورينو لتهدئة الدائنين الدوليين – إلى طرد نحو من 3500 من العاملين في مجال الصحة العامة في العام الماضي”[7]. وقالت صحيفة نيويورك تايمز: إن حصيلة الوفيات هناك أكبر بـ 15 مرة مما تكشفه البيانات الرسمية وإنها من بين الأسوأ في العالم[8].

في معظم البلدان النامية، أتت الأزمة الاقتصادية الناتجة عن الوباء في أسوأ توقيت، إذ دخلت العديد من الدول الأشهر الأخيرة من عام 2019 في حالة هشة بالفعل. بلغ إجمالي ديون البلدان النامية 191 ٪ من ناتجها المحلي الإجمالي في عام 2019، ومعظم هذه الديون تعود لشركات القطاع الخاص، فيما أكثر من ثلثها مملوكة للأجانب، ومقيّمة بالعملات الأجنبية[9]. كانت عدة بلدان نامية تحتفظ باحتياطي من العملات الأجنبية، في الفترة التي سبقت أزمة عام 2008، إلا أن الحال لم يبق على ما هو، منذ انخفاض أسعار السلع عالمياً عام 2012، كما أن كمية كبيرة من الاحتياطيات ناتجة عن الاقتراض، وليست من أرباح التصدير. ونتيجة لذلك، من المرجح أن يكون هناك عواقب مدمرة على الدول الناشئة نتيجة الانخفاض الحاد في الطلب، وتعطل سلاسل التوريد، وتسرب الأموال من البلدان الناشئة لامتلاك الأصول الأكثر أماناً. ويقدر مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية UNCTAD أن التدفقات الصافية لكل من الديون وحصص الأسهم من اقتصاديات الدول الناشئة الرئيسية بلغت 59 مليار دولار في شهر واحد، منذ بدء أزمة كورونا (من 21 شباط إلى 24 آذار )، أكثر من ضعف مبلغ تدفقات رأس المال إلى الخارج، في أعقاب الأزمة المالية لعام 2008 مباشرة (26.7 مليار دولار)[10]. ومن المرجح أن تتعرض تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر وكذلك الدول المثقلة بالديون وتلك التي تعتمد على صادرات السلع لصدمات اقتصادية خطيرة.

 إن التداعيات الاقتصادية الثانوية الناتجة عن الذعر الناجم عن أزمة الكورونا كبيرة بطبيعة الحال، حتى الآن، وستزداد سوءاً بمرور الوقت. وفي حال  أدى ذلك إلى تعطّل أسواق الحبوب والغذاء الدولية، فقد يزيد الوباء من انعدام الأمن الغذائي. يمكن أن يحدث ذلك في حال اعتماد الدول المصدرة للمواد الغذائية على قيود للتصدير أو نظام الكوتا (حصص التصدير)، أو إذا ما أثر الفيروس على قوة العمل الزراعية أو تسبب باضطرابات لوجستية أخرى، في أسواق المواد الغذائية[11]. إن الإيرادات الضائعة والانكماش الاقتصادي تعني ضمناً قدرة أقل على تمويل الواردات الغذائية.

يشير مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية أن البلدان المنخفضة الدخل تخصص نحو “37٪ من عائدات صادراتها من السلع” لواردات الأغذية، أو خمسة أضعاف ما تخصصه البلدان المتقدمة[12]. فإذ حدث بعض الاضطراب، في سوق المواد الغذائية، بسبب العوائق التي وضعت في وجه الصادرات الزراعية، في أعقاب الأزمة المالية الكبرى 2007/2008 (GFC)، إلا أن الأزمة اليوم أعمق بكثير. إضافة إلى الانخفاض الحاد، فقد ضربت هذه الأزمة قطاعات أكثر بكثير من تلك التي تأثرت بالأزمة المالية الكبرى، إذ أدت عمليات الإغلاق وحظر التجول وغيرها من الإجراءات الصارمة إلى تدمير القطاعات الخدمية، مثل السياحة والنقل والضيافة. ومن المرجح أن تحقق بعض الخدمات التي تعمل بتقنية تكنولوجيا المعلومات والاتصالات مكاسب غير متوقعة، بما في ذلك خدمات “العمل عن بعد وبث الفيديو والألعاب ومنصات التجارة الإلكترونية” الموجودة في الغالب في البلدان المتقدمة[13].

تجب معالجة الضرر الاقتصادي، الذي يلحق بالفقراء في البلدان النامية. إذ يقدّر أن تؤثر إجراءات الإغلاق الكاملة أو الجزئية على 2.7 مليار عامل، أو 80٪ من القوى العاملة في العالم البالغ عددها 3.3 مليار شخص.[14] يسبب الفيروس زيادة الوفيات بين كبار السن بصورة رئيسية، إلا أن تأثيره على القوى العاملة قد يكون ذا عواقب وخيمة ودائمة، على فئة الشباب والعاملين في القطاع غير المنظم  والفقراء. في عام 2019، قبل بداية الأزمة، قالت منظمة العمل الدولية: إن 20٪ من الشباب تحت سن 25 – أو 267 مليون من الشباب في العالم – مصنفون ضمن فئة NEET (الأشخاص العاطلين عن العمل وغير الملتحقين بتعليم أو تدريب مهني). العمال الشباب هم أول من يتم تسريحهم، وهم الأكثر احتمالاً أن يعملوا في الاقتصاد غير المنظم، ولديهم مدخرات ضئيلة أو معدومة. كما أنهم أصحاب الاحتمال الأكبر للعمل في مجالات مثل البيع بالجملة والتجزئة وقطاع الأغذية، التي تعتبر أكثر عرضة للتأثر بتداعيات الوباء[15].

 من غير المرجح أن يستفيد العمال في القطاع غير المنظم، وغير المسجلين في خطط التوظيف الرسمية، من التأمين ضد البطالة، ولديهم وصول أقل إلى خدمات الصحة العامة، كما أنهم يعملون في القطاعات التي يسهل فيها انْتِشار الإصابة بالفيروس، خاصة في المناطق الحضرية، ويتأثرون أيضاً بإجراءات الإغلاق. هؤلاء يجب أن يتم الوصول إليهم من خلال وسائل أخرى. إن برامج الحماية الاجتماعية التي تعتمد على المنح النقدية هي أكثر الوسائل فعالية لدعم الأسر، التي يعمل أفرادها في القطاع غير المنظم؛ ويمكن تفعيل الخطط الموجودة مسبقاً، حتى لو كانت موضوعة أساساً لأغراض أخرى (مثل دعم الأطفال في الأسر الفقيرة). وعلى الرغم من أن الحيز المالي للدول النامية محدود، فحتى 18 نيسان/أبريل قامت 133 دولة بوضع خطط أو تبني برامج للحماية الاجتماعية والتشغيل، وأكثر من ثلث تدابير الحماية تتضمن تحويلات نقدية[16].

كذلك عانت دول منطقة الشرق الأوسط من الأثر الاقتصادي للأزمة. فقد وجدت منظمة العمل الدولية أن هناك انخفاضاً بنسبة 8 ٪ في ساعات العمل في الدول العربية، وهو أكبر انخفاض بين المناطق التي تمت مقارنتها بما في ذلك آسيا وأفريقيا والأمريكيتين وأوروبا وآسيا الوسطى؛ إذ بلغ متوسط الانخفاض في الدخل المتوسط الأدنى والدخل المتوسط الأعلى 6.7٪ و 7٪ على التوالي.  ويأتي ذلك بالتزامن مع تحوّل الأزمة إلى معركة أسعار وصراع للسيطرة على منظمة أوبك وسوق النفط، بين كل من السعودية وروسيا. أدت الزيادة الكبيرة في الإنتاج اليومي للمملكة العربية السعودية – والتي فاقت مليوني برميل يومياً – إلى جانب التوقف المفاجئ للاقتصاد العالمي، إلى صدمة نفطية أدت إلى سقوط حر في أسعار النفط من 70 دولاراً للبرميل تقريباً إلى أقل من 20 دولاراً في كانون الثاني/ يناير[17]. بالنسبة للدول المصدرة للنفط – ولا سيما الدول الكبيرة مثل العراق والجزائر – فإن هذا يعني انخفاضاً حاداً في الإيرادات مع تغير طفيف أو متزايد في الإنفاق العام[18]. وفي حين أن انخفاض أسعار النفط يساعد البلدان المستوردة للنفط، إلا أنه في منطقة الشرق الأوسط العربي يؤذي كلا النوعين من الدول، لأن العديد من مستوردي النفط يعتمدون أيضاً على تحويلات العمالة والاستثمار المباشر والمنح والسياحة من الدول المصدرة للنفط[19].

إن العمال المهاجرين والعمالة غير المنظمة في دول المنطقة العربية هم عرضة لآثار الأزمة اقتصادياً وصحياً، لأنهم في الخطوط الأمامية. فمعظم الخدمات الأساسية التي تسمح بتطبيق سياسات “التباعد الاجتماعي” لأسر الطبقة المتوسطة والعليا تقوم بتأديتها عمالة فقيرة أو غير رسمية أو مهاجرة، في جميع أنحاء المنطقة. وبغض النظر عن التفاوتات العميقة التي تميز المجتمعات العالمية – والتي تعني ضمناً أن الملايين من الناس لا يستطيعون تحمل عبء التوقف عن العمل حتى لو خاطروا بحياتهم – ، لا يمكن لمعظم الناس البقاء في منازلهم.

لما يزيد عن شهر، كانت هناك دعوات لاستجابات دولية منسقة، لتوفير الإغاثة ودعم السيولة للبلدان النامية. إذ ظهرت العديد من الدعوات لزيادة سريعة في حقوق السحب الخاصة (SDRs) وهي أصل دولي صادر عن صندوق النقد الدولي، كان من المفترض أن يكون بمثابة عملة عالمية[20]. على سبيل المثال، تورد الفاينانشيال تايمز، دعوة قادة 18 دولة، من بينها ألمانيا وإثيوبيا وفرنسا وجنوب إفريقيا والبرتغال وإيطاليا وجمهورية الكونغو الديمقراطية، إلى سلسلة من الإجراءات من قبل المؤسسات متعددة الجنسيات:

“التعليق الفوري لجميع مدفوعات الديون الثنائية والمتعددة الأطراف، سواء العامة أو الخاصة، حتى انتهاء الوباء. لدعم هذه العملية وتوفير سيولة إضافية لشراء السلع الأساسية واللوازم الطبية الضرورية، يجب على صندوق النقد الدولي أن يقرر على الفور بشأن توزيع حقوق السحب الخاصة. كما يطلب [القادة] من جميع شركاء التنمية في إفريقيا تخصيص ميزانيات مساعدات التنمية الخاصة بهم لمواجهة الأزمة[21].”

 أعلن البنك الدولي أنه يتوقع توزيع 160 مليار دولار على مدى الأشهر الخمسة عشر المقبلة، لدعم البلدان النامية، بما في ذلك مشاريع عاجلة بقيمة 1.9 مليار دولار لبدء العمل في 25 دولة، وإعادة توزيع الأموال من مشاريع أخرى لمعالجة تداعيات الوباء[22]. تلعب المؤسسات الدولية، مثل صندوق النقد الدولي وغيرها دوراً في ثلاث عمليات ضرورية لإغاثة البلدان النامية: ضخ السيولة، وإعادة هيكلة الديون، وتشديد ضوابط رأس المال. وكما يناقش البروفيسور جياتي غوش، فإن هذه فرصة لصندوق النقد الدولي والمؤسسات المتعددة الجنسيات الأخرى لـ “التكفير عن أنفسهم” نظراً لسياسات التقشف وحماية اللاعبين الماليين التي يتبعونها منذ أمد طويل على حساب المجتمعات الفقيرة[23].

دعت مجموعة كبيرة من السياسيين والمثقفين في أمريكا اللاتينية إلى إلغاء ديون أمريكا اللاتينية من قبل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وبنك التنمية في أمريكا اللاتينية، وتعليق مدفوعات فوائد الدين لمدة عامين للدائنين من القطاع الخاص الدولي.

في منطقة الشرق الأوسط، وافق صندوق النقد الدولي على حصول عدة دول على قروض طارئة للتعامل مع الأزمة. وافق المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي في 26 آذار/مارس 2020 على برنامج مدته 48 شهراً يمنح الأردن 270٪ من حصتها من حقوق السحب الخاصة البالغة 1.3 مليار دولار أمريكي أو 926.37 مليون وحدة حقوق سحب خاصة. لقد صمموا البرنامج قبل أزمة فيروس كورونا، لكنهم يمنحون الحكومة الأردنية فسحة لدعم الإنفاق غير المدرج في الميزانية، مع إمكانية إجراء المزيد من التعديلات إذا تدهورت الظروف أكثر[24]. وفي 8 نيسان/ أبريل، اعتمد المغرب على اتفاق سابق مع صندوق النقد الدولي بقيمة تقارب 3 مليار دولار للإنفاق الطارئ[25]. كذلك حصلت الصومال – التي تعتبر دولة فقيرة مثقلة بالديون- على موافقة في 25 آذار/مارس على حزمة تمويل لمدة ثلاث سنوات بقيمة 395.5 مليون دولار أمريكي[26]. وفي 10 نيسان/ أبريل، وافق المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي على صرف 542 مليون وحدة حقوق سحب خاصة لتونس (أو 100٪ من حصتها) من خلال أداة التمويل السريع (وهي طريقة للحصول على أموال من صندوق النقد الدولي للتعامل مع الصدمات، التي يتعرض لها الاقتصاد بدون برنامج جديد) بالنظر إلى أنه من المتوقع أن ينكمش الاقتصاد التونسي بنسبة 4.3% في 2020، وهو أعمق ركود له منذ الاستقلال[27].

مع ذلك ستؤثر عوامل عديدة على نتائج مثل هذه التدخلات متعددة الجنسيات، واحتمالات شكل النظام العالمي،  أولاً، هل ستكون الزيادة في الإقراض والمنح المقدمة من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وسيلة لإعادة تأكيد سلطة هاتين المؤسستين، التين ستسعيان إلى فرض شروطهما ورفع مستوى دورهما المتضائل منذ الأزمة الآسيوية، أم ستكون لحظة لإعادة التفكير في دور تلك المؤسسات؟ لا تزال الولايات المتحدة تستخدم موقعها المهيمن داخل صندوق النقد الدولي لتسييس زيادة الوصول، مما يعوق الطلب الإيراني للحصول على قرض طارئ[28]. وماذا عن الصين، التي تجاوزت المرحلة الحرجة من تأثير الوباء صحياً واقتصادياً. هل ستواصل صعودها كمانح عالمي رئيسي للبلدان النامية؟

هل يمكن أن يدفع هذا أيضاً إلى العودة إلى مرحلة عدم الانحياز لمجموعة الـ 77 لاستخدام الأمم المتحدة كمنتدى للمداولات المتعلقة بالسياسة العالمية؟ لقد اقترحت دول أمريكا اللاتينية أن تكون الجمعية العامة للأمم المتحدة مكاناً لمناقشة الإطار القانوني الدولي لاستراتيجية تخفيف عبء الديون المذكورة أعلاه [29]. وعلى الرغم من جميع المحاولات لتقويض مؤسسات الأمم المتحدة، تضطلع منظمة الصحة العالمية بدور قيادي في تنسيق الِاسْتِجابَة للوباء والعمل كصوت للمنطق، وهذا مما يوضح استمرار الأهمية والمرونة لبعض المؤسسات الدولية على الأقل في الحوكمة العالمية.

نظرة استشرافية: فرصة للعدالة والتضامن العالمي؟

من جانب صندوق النقد الدولي، لا يبدو أن هذه الاتفاقيات تشير إلى تحول في الموقف تجاه سياسة طويلة المدى. فاللغة المستخدمة في الاتفاقيات مع الأردن وتونس والمغرب تشير إلى أن صندوق النقد الدولي يعتبر هذه الإجراءات استثنائية، وأن هناك حاجة للعودة إلى العمل كالمعتاد. حتى على المدى القصير، يُقال إن تونس “اتخذت خطوات للحد من الضغوط المالية، بما في ذلك آلية التعديل التلقائي لأسعار الوقود، والوفورات الطارئة في فاتورة أجور الخدمة المدنية، وإعادة جدولة الاستثمار العام ذي الأولوية الدنيا”، وإن “السلطات ملتزمة باستئناف التصحيح المالي، بمجرد انحسار حدة الأزمة”[30]. توضح حالة لبنان أن الأمر يتطلب أكثر من مجرد مساعدة ، فقد أدى الوباء إلى تسريع المشكلات الاقتصادية العميقة في الدولة، مما وضع الكثير من سكانها على حافة الفقر المدقع. توَضِّح الأزمة الحالية في لبنان أن المخرج من الأزمة ليس ببساطة في تلقي المساعدات العاجلة على المدى القصير، ولكن في الانفصال على نحو قاطع عن النماذج الاقتصادية الفاشلة التي تسيطر على معظم اقتصادات المنطقة[31]. هذه السياسات جعلت منطقة الشرق الأوسط ذات أعلى مستوى من اللَّامِسَاوَاة في العالم، وفقاً لتوماس بيكيتي وزملائه[32].

إن العودة إلى النماذج أو أَساليب العمل الاقتصادية السابقة، على المستوى الوطني أو الإقليمي أو الدولي، أمر غير ممكن وغير مرغوب فيه. في الدول الغنية، زادت الِاسْتِجابَة للوباء من كراهية الأجانب والعنصرية، وقلّصت التضامن بين الدول؛ كالذي قامت به الولايات المتحدة الأميركية والذي وصف “بالقرصنة الدولية” عندما حوّلت وجهة شحنة من  200 ألف كمامة طبية كانت متوجهة إلى ألمانيا[33]. ولكن كانت هناك أيضاً حالات مهمة من مبادرات الإيثار والتضامن؛ إذ تطوع مئات الآلاف من المواطنين في العديد من البلدان لدعم جهود الفحص وتتبع الأشخاص المصابين [34]. إن مفتاح تحقيق نتائج أكثر فعالية ليس في الطبيعة الاستبدادية للدولة كما جادل بعضهم، ولكن في ثقة المواطن في مؤسسات الدولة. يتضح ذلك في ألمانيا من خلال التقارير حول مدى تعاون المواطنين مع دراسة وطنية للأجسام المضادة – مصممة لتقليل انْتِشار الفيروس وزيادة تَتْبع الإصابات  – إذ يعرض المواطنون مشاركتهم: “أريد المساعدة. هذه أزمة جماعية. إن الحكومة تفعل ما تستطيع. على الجميع القيام بواجبهم “. وكما يقول التقرير: “أعطت الثقة الواسعة في الحكومة ألمانيا ميزة كبيرة جداً”[35]. ومع ذلك، فإن المبادرات لا تنبثق فقط من الحكومة، فقد دمجت المبادرات الهامة أيضاً المجتمع المدني والمبادرات الفردية التي تم تبنيها بسرعة. في ماساتشوستس، بدأ الحاكم الجمهوري أول برنامج تتبع، يوظف أشخاصاً للقيام بالتواصل الفردي، وتتبع التفاعلات الاجتماعية للأشخاص الذين كانوا مصابين. جاءت الفكرة من قبل منظمة “شركاء في الصحة”، وهي منظمة غير حكومية للصحة العامة شارك في تأسيسها الطبيب والكاتب الشهير بول فارمر[36]. على ما يبدو، جاءت المبادرة الألمانية إلى المؤسس الدكتور مايكل هويلشر ” أثناء الدوش”. في اليوم التالي، قال إنه قدم عرضاً مختصراً للحكومة البافارية. بعد ست ساعات، حصل على الضوء الأخضر لتنفيذه واستغرق الأمر ثلاثة أسابيع أخرى حتى وصلت معدات الاختبار، وافتتح مختبر جديد وبدأت فرق الأطباء في الانْتِشار في جميع أنحاء المدينة.

جادل باولز (2020) مُؤَخَّرًا بأن هناك معركة قادمة من أجل سردية فيروس كورونا وأن الِاسْتِجابَة الحاسمة من قبل اليسار يجب أن تتجاوز الحجج التقليدية لزيادة التدخل الحكومي. وفقًا لباولز لا تكشف أزمة فيروس كورونا عن حدود القطاع الخاص والسياسات النيو ليبرالية فحسب، بل يكشف أيضاً عن حدود العمل الحكومي. يجب أن يأخذ التفكير في السياسة العامة في الاعتبار دور الطرف الثالث: المجتمع أو المجتمع المدني[37]. لا يمكن للنهج التقليدي أن يتعامل مع تعقيدات تحقيق استجابة فعالة لفيروس كورونا.

إن الاستجابات الفردية أثناء الوباء – مثل احترام قرارات الإغلاق- لها تأثير كبير على بقية المجتمع. وبحسب باولز، “لا تتأثر درجة احترام الأفراد لعملية الإغلاق فقط بوضعهم الاقتصادي واحتياجاتهم المادية، بل أيضاً بثقتهم في المؤسسات العامة، ودرجة التضامن الاجتماعي أو رأس المال الاجتماعي، والمبادرات المجتمعية”.

 “سيتعين على السردية التي ستظهر في أعقاب أزمة فيروس كرونا أن تأخذ الحقائق الآتية في الاعتبار: أولاً، لا توجد طريقة يمكن للحكومة – مهما كانت منظمة ومهنية – أن تتصدى لممثل هذا الوباء بدون مواطَنة ذات عقلية مدنية، تثق في المشورة الصحية لحكومتها وتلتزم سيادة القانون. ثانياً، إن الأشخاص الذين يواجهون مخاطر وتكاليف استثنائية تصرفوا بالفعل بسخاء وثقة كبيرين. ثالثًا، إن النهج الاقتصادي المعتمد على الفردانية والاهتمام بالذات ثبت أنه غير دقيق إلى حد كبير، قد يكون أيضاً سبباً للقلق؛ فقد يهتم الأشخاص بالآخرين بطرق سلبية وإيجابية. إن التصعيد المخيف في هجمات الكراهية ضد الأجانب يعتبر نذير شؤم”.[38]

قد يكون هذا المفهوم مفيداً لأغراض البحث والاستدلال والدعوة إلى لتحليل. في الواقع، ناقش تحليل الاقتصاد السياسي (في التقاليد الراديكالية بما في ذلك عمل باولز)، منذ فترة طويلة، بأن مثل هذه الانفصالات الدقيق  غير موجودة، وأن الأسواق والدول والمجتمع المدني ليست جهات فاعلة مستقلة، وإنما يتم تشكيلها بشكل مشترك. بل ربما يكون من المفيد أكثر التفكير في السياسات التي يمكن للقوى والحركات الاجتماعية في العالم أن تطرحها، لدفع النقاش نحو اقتصاد سياسي عالمي أكثر تقدمية وإنسانية.

هناك مجموعة من العوامل لعبت دوراً رئيسياً في فعالية الِاسْتِجابَة لأزمة فيروس كورونا منها: التضامن الاجتماعي، والإنصاف في النتائج المؤسساتية، والمشاركة والتمثيل، والاقتصاد المنتج، لا الرَيّعي أو الطفيلي. هذه أيضاً جوانب إيجابية في جميع الأوقات، لا في أوقات الأزمات الوبائية فقط. كما أن انتشار الفيروس العابر للحدود هو فرصة لدعوة متجددة للتضامن العالمي.

من الذي سيكسب السردية وسياسة الِاسْتِجابَة العامة في أعقاب الوباء.. النتيجة ليست محسومة!


[1] Omar S. Dahi, the author would like to thank Pete Moore, Rabie Nasser, Nabil Marzouk and Amr Dukmak for comments on a previous draft

[2] SIPRI 2018

[3] https://www.thenation.com/article/archive/the-us-has-military-bases-in-172-countries-all-of-them-must-close/

[4]  https://www.nytimes.com/reuters/2020/03/27/us/politics/27reuters-health-coronavirus-michigan.html

[5] https://www.ft.com/content/26af5520-6793-11ea-800d-da70cff6e4d3

[6] https://www.medrxiv.org/content/10.1101/2020.03.24.20042937v1; https://thewire.in/health/tracking-covid-19-in-india-the-bcg-hypothesis

[7]  https://www.nytimes.com/2020/04/08/world/americas/ecuador-coronavirus.html

[8]  https://www.nytimes.com/2020/04/23/world/americas/ecuador-deaths-coronavirus.html

[9] UNCTAD Trade and Development Report Update March 9, 2020 “The Coronavirus shock: a story of another global crisis foretold and what policymakers should be doing about it”

[10]  UNCTAD Trade and Development Report Update March 30, 2020 “The Covid Shock to developing countries: towards a whatever it takes programme for two-thirds of the world’s population left behind.”

[11]  https://unctad.org/en/pages/newsdetails.aspx?OriginalVersionID=2331

[12] 

[13]  https://unctad.org/en/pages/newsdetails.aspx?OriginalVersionID=2327

[14] https://www.ilo.org/wcmsp5/groups/public/@dgreports/@dcomm/documents/briefingnote/wcms_740877.pdf

[15]  https://iloblog.org/2020/04/15/young-workers-will-be-hit-hard-by-covid-19s-economic-fallout/

[16]  http://www.ugogentilini.net/

[17]  https://www.theguardian.com/world/2020/mar/11/saudi-arabia-oil-price-war-production-increase-aramco

[18]  https://thmanyah.com/4464/; https://www.cnbc.com/2020/03/17/opec-iea-warn-some-nations-could-lose-up-to-85percent-of-oil-and-gas-income.html

[19]  https://www.worldbank.org/en/region/mena/brief/coping-with-a-dual-shock-coronavirus-covid-19-and-oil-prices

[20]  https://ftalphaville.ft.com/2020/03/20/1584709367000/It-s-time-for-a-major-issuance-of-the-IMF-s-Special-Drawing-Rights/

[21]  https://www.ft.com/content/8f76a4c6-7d7a-11ea-82f6-150830b3b99a

[22]  https://www.worldbank.org/en/news/feature/2020/04/02/the-world-bank-group-moves-quickly-to-help-countries-respond-to-covid-19#

[23]  https://www.project-syndicate.org/commentary/how-imf-can-lead-global-covid19-response-by-jayati-ghosh-2020-04

[24]  https://www.imf.org/en/News/Articles/2020/03/25/pr20107-jordan-imf-executive-board-approves-us-1-3-bn-extended-arrangement-under-the-eff


[25]  https://www.imf.org/en/News/Articles/2020/04/08/pr20138-morocco-draws-funds-available-under-precautionary-liquidity-line-covid19-pandemic

[26] https://www.imf.org/en/News/Articles/2020/03/25/pr20105-somalia-imf-executive-board-approves-3-year-ecf-and-eff-arrangements

[27]  https://www.imf.org/en/News/Articles/2020/04/10/pr20144-tunisia-imf-executive-board-approves-a-us-745m-disbursement-address-covid19-pandemic

[28] https://www.ips-journal.eu/regions/middle-east/article/show/the-corona-crisis-could-trigger-a-change-in-irans-foreign-policy-4298/ ; https://www.reuters.com/article/us-imf-worldbank-sdrs/u-s-stalling-massive-imf-liquidity-boost-over-iran-china-sources-idUSKCN21X0L8

[29]  https://www.celag.org/la-hora-de-la-condonacion-de-la-deuda-para-america-latina/

[30]  https://www.imf.org/en/News/Articles/2020/04/10/pr20144-tunisia-imf-executive-board-approves-a-us-745m-disbursement-address-covid19-pandemic

[31]  https://synaps.network/post/lebanon-finance-economy-ponzi-bankrupt

[32]  https://wid.world/document/alvaredoassouadpiketty-middleeast-widworldwp201715/

[33]  https://www.bbc.com/news/world-52161995

[34] Quoted in Bowles (2020): https://www.england.nhs.uk/participation/get-involved/volunteering/nhs-volunteer-responders/ ; See also Massachusetts labor intensive social tracing method: https://www.nytimes.com/2020/04/16/us/coronavirus-massachusetts-contact-tracing.html

[35]  https://www.nytimes.com/2020/04/18/world/europe/with-broad-random-tests-for-antibodies-germany-seeks-path-out-of-lockdown.html

[36] https://www.nytimes.com/2020/04/16/us/coronavirus-massachusetts-contact-tracing.html

[37]  https://voxeu.org/article/coming-battle-covid-19-narrative

[38]  Ibid.

Leave a comment